الحمد لله وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد
فهذه مقالة بعنوان: (انتبه يا قاصد المسجد الحرام)
موضوعها : حول كون الهم والعزم المصمم على فعل السيئة ، يكتب على العبد ، وذلك في الحرم المكي لعظمة المكان وشرفه وحرمته.
وهي تحتمل التحرير والنقل أكثر وبسط الكلام، ولكن أكتفي بما قد تيسّر الإفادة به في بعض المناسبات، نسأل الله أن ينفع بذلك.
قال الله تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ﴾ [الحج]
حاصل المعنى : أن الله تعالى توعد بالعذاب الأليم -الذي يشمل عذاب الدنيا والآخرة- من يهم ويعزم ويصمم على الإلحاد والظلم في المسجد الحرام الشامل للحرم كما تفيده عبارات المفسرين.
وصرّح عددٌ من أهل العلم بأن الهم والعزم على الظلم مكتوب وإن لم يعملْه. وأن هذا الحكم مما يختص به الحرم المكي. وألحقَ بعضُ العلماء الحرم المدني . ويظهر لي تخصيص الحرم المكي كما صرح به غير واحد من المحققين.
وهذا القول اختاره طائفة من المحققين.
ولا غرابة في ذلك فقد قال تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا﴾ .
قوله: (بفاحشة) أي بنشوز وسوء خلق ونحوه من معصية الزوج . وكانت المضاعفة؛ لشرفهن في أنفسهن وشرف المكان فإنهن فراش أفضل الخلق وفي بيت يتنزل فيه القرآن ينزل به جبريل. ومنه تشرق على الناس النبوة والعلم والشرع والدين.
فلا غَرْو أن تعظُم العقوبة لمكان أو زمان. بل عقوبة العالِم الذي فضّله الله بالعلم أعظم من عقوبة الجاهل كما هو معلوم مقرر في موضعه.
ومن كلام أهل العلم في المسألة وبيان معنى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) :
قال أبو جعفر ابن جرير: «وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس، من أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله، وذلك أن الله عم بقوله ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ ولم يخصِّص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصي الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له».
فاختار -وهو الصحيح- عموم الآية لسائر أنواع الظلم لا خصوص القتل ونحو من العظائم. وهو اختيار ابن كثير وجماعة كثير من المفسرين.
قال القرطبي في تفسيره: «السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك ، وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله . وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله». قلت -القرطبي-: هذا صحيح .
ثم قال القرطبي : «وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلِعِظَم حرمة المكان توعّد الله تعالى على نية السيئة فيه . ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة . هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم» انتهى المراد
وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن خواصِّه: أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها ، قال تعالى : ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾ فتأمل كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ، ولا يقال : أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل ( همّ ) ، فإنه يقال : هممت بكذا ، فتوعد من همّ بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم». زاد المعاد
وقال ابن كثير رحمه الله : « ... والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى ( يهم ) ، ولهذا عداه بالباء ، فقال : ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم﴾ أي : يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار ... وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ... الخ كلامه وهو مهم مفيد
وقال الشنقيطي رحمه الله : « ... فهذه الآية الكريمة مخصِّصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : «ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة» الحديث ، وعليه : فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي ، ووجه هذا ظاهر ». أضواء البيان
و قال الامام ابن باز رحمه الله : «من همّ بالمعصية في الحرم الشريف المكي؛ استحق العقاب، هذا شيء خاص بالحرم المكي؛ لأن الله يقول سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . هذا وعيد شديد، يدل على أنه إذا هم بالمعصية ولو لم يفعل، يستحق العقاب، فالواجب الحذر على من كان في مكة...» الخ كلامه كما في الفتاوى
وأكتفي بهذا، ونسأل الله العفو الذي يحب العفو أن يعفو عنا وعن المسلمين.
والحمد لله رب العالمين.
في رمضان 1444